إنها مجرد عملية للدفاع عن النفس!
عد أعوام، أقصد حين يموت كل الذين يعرفوننا، سنكتب سيرتنا في كتب فخمة، ولن يكون هناك من يشهد على ما نقول، وربما ستصدق الأجيال الآتية ما نقول ويحسدون جرأتنا “في الكتاب بالطبع”.
سنكون أبطالا، مدافعين عن كل شيء، وفي الفصل الأول سنحكي عن تربيتنا الثورية، ونضال آبائنا الذي غرسوه فينا، وفي الخامس ربما سنكتب تاريخ المعارك التي خضناها، وفي الثاني عشر سنكون أصدقاء لكل الشهداء الذين مضوا، وفي العشرين سنكتب عن محاولات اغتيالنا العديدة والتي نجونا منها بالطبع، وإلا فكيف نكتب سيرة ونحن لم ننجُ؟
ربما وقتها، سيتساءل فتى ما زال يعيش في مخيم ضاق من شدة دوس المستوطنات على أضلاعه، ويكتب على الجدران عبارات ترسم دهشته من كل هذا النضال في الكتب، وكل تلك المستوطنات على الأرض، ولن يكون بالإمكان الرد عليه، لأننا لا نستطيع الرد على كل شخص يحمل سؤالا، فليقرأ الكتاب ويتعلم، وإلا لماذا كتبناه؟
بالرجوع إلى الكتب القديمة، نكتشف كم كنّا، وما زلنا، منفوخين كسمكة البالون Balloon fish، هي يملؤها الهواء ونحن يملؤنا الكلام.
أعداؤنا قتلوا أبناء جلدتهم كي يقيموا كيانهم، قال قادتهم: بقرة في فلسطين أهم من كل يهود بولندا… نسفوا سفناً وهدموا معابد يهودية كي يجبروا أصحابها على الهجرة إلينا، فكيف يمكن أن يصنعوا بنا نحن “الأغيار الأعداء”، وكيف يمكن أن نطمئن إلى وجودنا حين يكون القاتل على مسافة ملليمتر واحد من أنفك، ببندقية جاهزة و”حبتها في بيت النار”؟
لم يعد الأمر متعلقاً بما يقوله العالم، هذا إذا قاله، ولم يعد الأمر متعلقا بما نقول، هذا إذا قلنا، فالمعادلة واضحة منذ ما يقارب القرن، فريق يخطط وينمو ويرتدي ثوب الضحية، وفريق يتركها للتساهيل ولرياح الحياة العشوائية، هنا قاتل وهنا قتيل، وهناك من لا يراقب المشهد من أساسه، ولا يعنيه كل ذلك، فهو مشغول باقتصاده ورفاهية سكانه، مشغول بإعادة صلب المسيح كي يتأكد من الواقعة.
انتهى زمن الأنبياء منذ 14 قرناً، وبالتالي انتهى زمن المعجزات، وانتهى زمن البطل الفردي، فالبطل الفردي يتم اصطياده طال الزمن أو قصر، لأن التركيز كله مصبوب عليه، ولا شيء آخر يشغل القاتل، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.
لا توجد عوامل أخلاقية في أحكام العالم، ولا عوامل إنسانية، بل توجد مصالح، قد تكون مركبة ومعقدة، وقد تكون بسيطة وواضحة، لكنها مصالح في النهاية، وطالما أن لا أحد يملك مصالح معنا كفلسطينيين تحت الاحتلال، فلا موقف سيؤخذ ولا حتى بالكلمات، وسنُقتل من جديد، والأكثر من هذا أن صوتنا كضحايا سيصادر من جديد كما يصادر منذ سبعة عقود ونصف.
في كتاب يعقوب رابكن “معنى إسرائيل” يلخص الأمر بعبارة: “لم تعد التوراة تشكل القاسم المشترك للأجيال الجديدة في إسرائيل، لذا فإن هناك قاسما مشتركا بين أمريكا وإسرائيل، هو الحاجة إلى هتلر جديد ليتم القضاء عليه، مما يستدعي إبقاء الإسرائيليين في حالة خوف دائم من عدوٍّ ما”.
هذا العدو في الغالب هو نحنُ، ولا تقلقوا من المفارقات في توازن القوى، فإسرائيل لديها الخبرة والإمكانات المادية والإعلامية لتحويلنا في نظر العالم إلى وحوش بسبعة رؤوس، بينما تتمتع هي بدور الغزالة المسالمة التي لا تأكل إلا العشب، وهذا الوحش يهددها على الدوام.
أما ما حدث في نابلس، فبكل بساطة، وبعيداً عن الأمهات الثكالى، والأولاد الذين تيتموا، والشهداء الذين ملأوا المقابر، فالعالم الآن يصوغ الخبر كالتالي: كانت مجرد عملية للدفاع عن النفس.